ادعمنا

النظرية النقدية في تفسير الدراسات الأمنية - Critical Security Studies Theory

ظهرت الدراسات النقدية للأمن مع مطلع التسعينيات في القرن العشرين، والتي أحدثت ثورة في الفكر ما بعد الوضعي حول الأطر المفاهيمية، حيث ركزت على الفرد كموضوع مرجعي لدراسة الأمن والنظرية النقدية الاجتماعية أرادت أن تكون واقعا جديدا نتيجة أعمال مدرسة فرانكفورت وخاصة مع روبرت كوكس ويورغن هابرماس، والتي حملت مفاهيم ومقاربات جديدة مست الجوانب المعرفية الابستمولوجية، وأسهمت في تطوير مفهوم الأمن، حيث دخلت الدراسات الأمنية مع بداية الألفية الجديدة مرحلة ثورية في تاريخ الحقل، تميزت هذه المرحلة بتعدد وتنوع النظريات والمدارس الأمنية التي بالرغم من اشتراكها في تبني خلفية الدراسات الأمنية النقدية، إلا أنها تباينت في مقاربتها لمفهوم الأمن، فالنظرية النقدية في حقل الدراسات الأمنية  استطاعت تفسير مضامين الأمن، ومواكبة التحولات الدولية لما بعد الحرب الباردة.

 

التطور التاريخي للنظرية النقدية:

نتجت هذه النظرية عن أعمال مدرسة فرانكفورت إلا أن إسهاماتها في مجال السياسة الدولية يعود إلى منتصف ثمانينيات القرن العشرين، ويعتبر "روبرت كوكس"  أكثر من ارتبط اسمه بهذه النظرية ومن أهم مفكري هذا التيار نجد "تيودور أدورنـو" ، "مـاركيز هـاربيرت"، "ماكس هوركـايمر" ، "يورغن هابرماس".

ولو أردنا معرفة السياق الفكري الذي تطورت فيه النظرية النقدية لوجدناها قد استلهمت من طبوع فكرية وفلسفية عديدة الأمر الذي يشير إلى ثراء معرفي لهذه النظرية التي مثلت الفلسفة الماركـسية مرحلة فارقة في تشكل إسهامها النقدي، لذلك هناك من يعتبر أن النظرية الاجتماعية النقدية مجرد ماركسية متقدمة أو ماركسية جديدة، لأنها تقدم أطرها النظرية في شكل انتقادات اجتماعية
وثقافية ذات توجه ماركسي وحسب النقديين.  

كما أن هنالك من يسمي النقدية بالجرامشية المتجددة نسبة إلى المفكر الإيطالي "أنطونيو غرامـشي" الذي طرح فكرة الهيمنة بإعتبارها تعني فرض السيطرة على الغالبية وقبول الوضع القائم الذي تهيمن عليه الطبقة المسيطرة.

وإذا بحثنا عن المرجعية الفكرية للنظرية النقدية بتفحص أدبياتها لوجدنا أن "يورغن هابرماس" يعتبر على رأس مفسري النظرية النقدية في فترة ما بعد الحرب الباردة، وكانت مـن أكثر مقولاته تأثيراً مفهومه عن حالة الكلام المثالي، حيث يقوم الأفراد بإظهار كفاءة في الإتـصال تؤدي إلى توافق عقلاني حول النقاش السياسي، وهذه الحالة من شأنها أن تؤدي إلى تطوير سياسات تحررية ويعرف هذا بأنه حالة "أخلاق الحديث ".

أما بخصوص مقاربتها للسياسة العالمية، فإن الأمر يستدعي تناول أعمال "روبرت كوكس" بدءا بمـا كتبـه On The Thinking about the Future of the Order World في عام 1976 حين تكلم عن غياب الخاصية النقدية لإسهامات النظريات الوضعية في العلاقات الدولية ، وفي 1981 أعاد  "روبرت كوكس" طرح فكرته بدقة شديدة  Social Force; state; Beyond IR World Order  حين تحدث عن النظرية بإعتبارها دوما في خدمة شخص ما أو تعمل على تحقيق هدف معين، وفي 1987م، أصدر "روبرت كوكس" Power and World Order  الذي صنف كأول مرجع تأسيسي لهذه المقاربة الجديدة.

 

اسهامات النظرية النقدية في الدراسات الأمنية:

1- مفهوم الأمن في النظرية النقدية:

إذاَ كان الواقعيون ينطلقون في دراستهم للأمن من أسئلة "لماذا؟" بحثا منهم عن أسباب بعض الأفعـــــــــــــــــال "كالسياسات الأمنية مثلا" والوقائع "لماذا السباق نحو التسلّح؟ لماذا تقوم الحروب؟"، فإنّ أسئلة "كيف؟" تسبق أسئلة "لماذا" في المقاربات النقدية للأمن "كيف يشكّل الفاعلون هوّياتهم ويعدّلونها؟ كيف يعرّفون مصالحهم في مجال الأمن؟ كيف يتشكّل التهديد؟"، فنقطة الانطلاق إذا بالنسبة للدّارسين النقديين للأمن هي البحث عن كيف يبنى التهديد ويعرّف؟ فعلى غرار الأمنيين الموسّعين، يرى هؤلاء أنّ الأمن ليس واقعًا موضوعيا كما في الطرح الواقعي، بل هو بناء اجتماعي يصنع عبر عمليّة خطابيّة لغويّة، وعليه، إذا كانت السياسات الأمنيّة نتيجة لخيارات سياسيّة وتدابير اجتماعية من طبيعة عارضة وغير ثابتة، فهذا معناه أنّنا يمكن أن نغيّرها، فالأمن كما يقول "كين بوث" ليس ذاتيا ولا موضوعيا "الأمن هو ما نفعله... إنّه ظاهرة تنشأ تلقائياً، تقدّم مختلف الخطابات حول سياسات وآراء وخطابات مختلفة حول الأمن" ، هذا أنّ التغيّر في هوية الفاعلين يؤثّر على المصالح، وهو ما يؤثر على سياسات الأمن القومي/الوطني، وبذلك تتمثل مبادئ النظرية النقدية حول الأمن الدولي في:

- النظام الدولي مبني اجتماعيا وليس ماديا، وبنية هذا النظام هي التي تحدد سلوكيات الدول إما تعاونا أو تنافسا، وبدوره هذا السلوك يتبع الطريقة التي تفكر بها الدول، أي أنه متغير تابع لعنصر الإدراك، بالإضافة إلى عنصر المعرفة بين الدول وخبرة التعاطي مع حالات التفاعل، وهنا تظهر أهمية عوامل أخرى غير القوة والفوضى في فهم الأمن الدولي وهي الأفكار والقانون والمؤسسات والمعرفة، فهي كلها عوامل تفيد في تشكيل النظام الدولي ومساراته التفاعلية، وقد قدم "ألكسندر واندت" مفهوما بديلا للمعضلة الأمنية وهو "الجماعة الأمنية" كبديل مؤسسي لحالة الفوضى الدولية، عن طريق سياسات الطمأنة التي تساعد على تحقيق بنية للمعرفة تستطيع أن توجه الدول نحو تشكيل "جماعة أمنية" تتمتع بقدر أكبر من السلام.

- على عكس الواقعيين الذين ركزوا اهتمامهم على الدولة كموضوع مرجعي للأمن فان النظرية النقدية تعتبر الفرد كموضوع مرجعي أساسي له، حيث أن العمل على حماية الإنسان أو الجماعة البشرية بصورة أشمل تجعل الهدف الأساسي هو البحث عن وسائل واستراتيجيات لضمان الأمن العالمي الشامل والأمن الإنساني فهما المفهومان الأساسيان اللذان تقترحهما النظرية النقدية الاجتماعية في إطار الدراسات الأمنية.

- تتبنى النظرية النقدية مرجعية جديدة في التحليل الأمني وهي الفرد باعتباره مركز تفاعل في السياسة الدولية، فالوحدة التحليلية الرئيسية لموضوع الأمن هي التحرر الإنساني من مصادر التهديد محليا ودوليا حيث أن الفاعل الأساسي هو الإنسان الفرد ثم تأتي بعده الدولة لأنها لم تعد المرجع الوحيد للأمن فلا يمكن امتهان كرامة الإنسان من أجل بقاء الدولة وانما وجدت الدولة من أجل حماية الإنسان حيث ضمت النظرية النقدية ثلاث اتجاهات أو مدارس تتمثل أساسا في:

١- مدرسة كوبنهاغن للدراسات الأمنية.

٢- مدرسة أبرستويث أو مدرسة ويلز للدراسات الأمنية.

٣- مدرسة باريس للدراسات الأمنية.

2- الفرد كموضوع مرجعي للأمن:

إن الخلل المنهجي في التحليل الواقعي الأمني المتسم بنزعة أولوية دور الدولة كأداة تحليل أساسية وتمجيد وجودها كفاعل حصري، جعل النظرية النقدية تعيد طرح السؤال من الأمن لماذا؟ إلى: الأمن لمن؟ أي من يجب تأمينه، من هنا تعتقد أنه لا يجب الخلط بين الأدوات والأهداف وبين الوسائل والغايات وتعتقد أن الدولة تهتم أكثر بقضايا الأمن الخارجي، لذا فهي الوسيلة أما الفرد فهو الهدف والغاية، فيصبح الأمن كنجدة للبشر في حالة الانكشاف أمام أنظمة القهر والاضطهاد، وحسب هذا التصور الراديكالي فان الدولة تجاوزها الزمن، بل أصبحت تشكل خطرا، ويعتقد كل من "كيث كروز" و"مايكل وليامز" أن أمن الأفراد يمكن دراسته على ثلاثة مستويات مختلفة هي: كأشخاص، كمواطنين، وكأعضاء في المجتمع والإنسانية كجماعة شاملة ، ففي ما يخص المستوى الأول كأشخاص، فالدولة لا تستطيع لا احتـــــــرام الحقوق الأساسية لهم ولا ضمان مصادر حاجاتهم الغذائية، أما فيما يخص المستوى الثاني :أمن المواطنين ، فإن الدولة ومؤسساتها يمكن أن تشكل تهديد أساسي لأمن الأفراد، وبخصوص المستوى الثالث: أمن الأفراد باعتبارهم أعضاء في الجماعة الإنسانية، فالدولة غير قادرة على حمايتهم في مواجهة القوى الشاملـة كالتدهور البيئي والاقتصادي، إذ لم تشكل هي ذاتها تهديدا للبيئة بواسطة أسلحتها الملوثة بيولوجية كانت أو نووية، حيث يعتقد أنصار النظرية النقدية أن الوحدة المرجعية للأمن هي الفرد أم الإنسان وليست شيئا فلسفيا مجردا كالدولة، إذ يرتكز مفهوم الأمن الإنساني على اتخاذ الفرد وحدة التحليل الأساسية وذلك في سياق ما أصبح يواجه أمن الأفراد من قائمة طويلة من مصادر التهديد التي لم تعد الدولة المسؤول الوحيد عنها كما لم يعد في مقدورها التعامل معها بمفردها.

3- مفهوم الانعتاق في النظرية النقدية:

الطبيعة الاشتقاقية لمفهوم الأمن ذو المضامين السياسية تساعد على استكشاف ما دعاه بوث "بحقائق الأمن" من خلال اعتبار الأمن "قيمة جوهرية" يعمل على تحرير الناس إلى درجة معينة من التهديدات التي تواجه وجودهم الإنساني، فعلى عكس الادعاء النيواقعي (الواقعي الجديد) الذي يفترض ربط الأمن بالبقاء، فإذا تمكنت الدولة من البقاء يمكنها أن تسعى لتحقيق أهداف أخرى كالطمأنينة، والربح أو القوة، يدعي بوث بأن الأمن كمفهوم نسبي يمكن أن يفهم بصورة ذاتية وغير ذاتية بين الذين يشعرون بالأمان ولكنهم في الواقع ليسوا كذلك لعدم إدراكهم للتهديدات المحيطة بهم "شعور زائف بالأمن" ومن يشعرون باللاأمن لإدراكهم للتهديدات والأخطار التي في الواقع ليست موجودة "شعور زائف بانعدام
الأمن"،  لذا يجب البحث عن الأمن حسب بوث من خلال السياسات الاعتاقية التي تساعد على تجاوز الأفراد أو الجماعات للقمع العارض والبنيوي كالحرب أو الفقر، فالانعتاق كخطاب للسياسة يقول بوث "يسعى الانعتاق لحماية الأفراد من القيود التي تحدهم من تنفيذ ما اختاروه بحرية، بالتوافق مع حرية الآخرين، انه يوفر إطار ثلاثي للسياسة: كمرسى فلسفي للمعرفة، نظرية لتطور المجتمع، وممارسة لمقاومة الظلم فالانعتاق هو مرسى، نظرية وفلسفة لاكتشاف الإنسانية.

من هذا المنطلق يقدم النقديين مفهوم "الانعتاق"  الذي يمثل قلب النظرية النقدية للأمن العالمي كمرادف لمفهوم الأمن، حيث يكتب كين بوث: "الأمن يعني غياب التهديد، والانعتاق هو تحرير الناس" أفراد وجماعات" من القيود التي تمنعهم من القيام بما يختارونه بحرية، الحرب وتهديد الحرب تعتبر واحدة من هذه القيود بالإضافة الى الفقر، سوء التعليم، الاضطهاد السياسي:فالأمن والانعتاق وجهان لعملة واحدة، الانعتاق ينتج الأمن الحقيقي وليس القوة أو النظام."

 

المصادر والمراجع:

سليم قسوم، الاتجاهات الجديدة في الدراسات الأمنية: دراسة في تطور مفهوم الأمن في العلاقات الدولية. الامرات العربية المتحدة: مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ب.س.ن.

سيد أحمد قوجيلي، الدراسات الأمنية النقدية ، مقاربات جديدة لإعادة تعريف الأمن. ط.1. الأردن: المركز العلمي للدراسات السياسية، 2014.

جويدة حمزاوي، "التصور الأمني الأوروبي: نحو بنية أمنية شاملة وهوية استراتيجية في المتوسط". جامعة الحاج لخضر باتنة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، مذكرة مكملة لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية، تخصص دراسات مغاربية ومتوسطية في التعاون والأمن،2011.

حسام حمزة، "الدوائر الجيوسياسية للأمن القومي الجزائري"،. جامعة الحاج لخضر باتنة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية، تخصص علاقات دولية، 2011.

ياسين سعيدي، "التحديات الأمنية الجديدة في المغرب العربي". جامعة وهران 2 محمد ابن أحمد، كلية الحقوق والعلوم السياسية، مذكرة تخرج لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، 2016.

أمينة مصطفى دلة، "الدراسات الأمنية النقدية". (جامعة الجزائر3، كلية العلوم السياسية والاعلام، قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، تخصص دراسات استراتيجية، 2013.

خالد معمري، "التنظير في الدراسات الأمنية لفترة  ما بعد الحرب الباردة دراسة في الخطاب الأمني الأمريكي بعد 11 سبتمبر". جامعة باتنة كلية الحقوق، قسم العلوم السياسية، مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية تخصص: العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية، 2008.

وسام ميهوب، "أثر المتغيرات الاقليمية والعالمية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة على أمن الأنظمة السياسية العربة". جامعة محمد خيضر بسكرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية، مذكرة تخرج لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، تخصص علاقات دولية واستراتيجية، 2014.

 

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia